بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه وبعد:
إذا نظر الإنسان يميناً وشمالاً شرقاً وغرباً، فإنّه يجد في معظم أرجاء العالم انتشار الظلم وأكل الحقوق، يرى الحروب المستعرة هنا وهناك، لا سيما في العالم الإسلامي، يرى واقعاً مؤلماً يتمثّل بانتشار الفقر والعوز وقلّة ذات اليد، يرى الغلاء الفاحش، يرى التفرق، إلى آخر ما هنالك من هذا الواقع المرير، إضافة إلى الابتلاءات التي تنزل من الله سبحانه وتعالى لحكمٍ يريدها من زلازل وبراكين وفيضانات وفي أماكن أخرى القحط والمحل، فما هو موقف المسلم العاقل تجاه هذه الحقيقة المؤلمة؟
حديثنا في هذه الأسطر عن عدم اليأس والقنوط من رحمة الله تعالى، وزرع الأمل بالله سبحانه وتعالى الذي يقول للشيء:
كُن فَيَكُونُ [يس: 82]
إنّ رحمة الله تعالى واسعة جدًّا لا تحدّها حدود، ولا تتخيلها العقول، يطمع فيها المؤمن وغيره، تتنزّل على خلقه، فإذا بها تضيء النفوس، وتجلو الهموم، وتؤمِّل قلب المحزون، ففي الحديث الشريف:
إنّ الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة، وأرسل في خلقه كلِّهم رحمةً واحدة، فلو يعلم الكافر بكلّ الذي عند الله من الرحمة لم ييأس من الجنّة، ولو يعلم المسلم بكلّ الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النّار (صحيح البخاري: 6469).
لذا كان اليأس أمرًا خطيرًا وخُلقًا ذميمًا، ومعصية كبيرة، ولقد حذرنا القرآن الكريم من اليأس من رحمة الله عزّ وجل؛ لأنّها خصلة من الخصال المدمّرة التي توردنا المهالك قال الباري عزّ وجل حكايةً عن سيدنا يعقوب عليه السلام حينما أوصى بنيه ولقّنهم درسًا هامًّا من دروس النبوّة في شحذِ الهمم وتربية العزائم وتقوية الصلة بالله تعالى:
يَٰبَنِيَّ ٱذۡهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَاْيۡـَٔسُواْ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِۖ إِنَّهُۥ لَا يَاْيۡـَٔسُ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨٧ [ يوسف: 87]
وعن قتادة رحمه الله تعالى: يريد من رحمَةِ الله تعالى.
وقال ابن زيد رضي الله تعالى عنه: من فَرَجِ الله تعالى (تفسير الدر المنثور).
وهذه كلّها ألفاظ تدعو إلى عدم القنوط.
فما معنى اليأس والقنوط؟
هو نقيض الرجاء، وقال ابن الفارس رحمه الله تعالى: قطع الأمل ولا "تيأسوا من روح الله" (مقاييس اللغة لابن فارس: 153/6).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى: نهضَهم وبشّرَهُم وأمرهم ألّا ييأسوا من روح الله، أي: لا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله تعالى فيما يقصدونه، فإنّه لا يقطع الرجاء من الله تعالى إلّا القوم الكافرون (تفسير ابن كثير: 4/348).
وهكذا معظم المفسرون يدندنون حول هذا المعنى.
فإذا تساءلنا ما هي صور اليأس من رحمة الله عزّ وجل؟
في الحقيقة هي كثيرة منها:
1. اليأس والقنوط من مغفرة الله تعالى للذنوب.
2. اليأس والقنوط من زوال الشدائد وتفريج الكروب.
3. اليأس من التغيير للأفضل: يتمثّل في يأس الإنسان في تحصيل ما يريده في أمر من أمور الدنيا، كـ "جاه أو مال أو زوجة وأولاد وغير ذلك".
4. اليأس من نصر أهل الإسلام: من خلال ارتفاع الذلّ والمهانة عن المسلمين، واليأس قد ينضم إليه حالة هي أشدّ منه! وهي تصميم على عدم وقوع الرحمة له، وهذا هو القنوط، بحسب ما دلّ عليه سياق الآية:
وَإِن مَّسَّهُ ٱلشَّرُّ فَيَـُٔوسٞ قَنُوطٞ ٤٩ [فصلت: 49]
- وقد ورد النهي عن القنوط بسبب الفقر والحاجة أو حلول مصيبة في مثل قوله تعالى:
وَإِذَآ أَذَقۡنَا ٱلنَّاسَ رَحۡمَةٗ فَرِحُواْ بِهَاۖ وَإِن تُصِبۡهُمۡ سَيِّئَةُۢ بِمَا قَدَّمَتۡ أَيۡدِيهِمۡ إِذَا هُمۡ يَقۡنَطُونَ ٣٦ أَوَلَمۡ يَرَوۡاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقۡدِرُۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَٰتٖ لِّقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ ٣٧ [الروم: 36-37]
- وورد النهي عن اليأس من مغفرة الذنوب في قوله تعالى:
قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ٥٣ [الزمر: 53]
فإنّ الله تعالى رحمته وسعت كلّ شيء، ومن أجل ذلك فالإنابةُ إلى الله تعالى مطلوبة وباب التوبة مفتوح للعبد ما لم يغرغر.
دوام الحال من المحال:
من سنن الله تعالى في هذه الحياة، أن جعلها غير صافية من الكدر فنعيمها ليس بدائم، بل فيها العطاء والمنع، والرخاء والشدّة، والغنى والفقر، والصحة والمرض، وطالما يعيش الإنسان في هذه الدنيا فهو معرّض لتغيّر الأحوال، ولا يضمن إنسان أيّاً كان أن يعيش حياةً خالية من المواقف الصعبة، والظروف العصيبة؛ لأن دوام الحال من المحال، يقول الباري عزّ وجل:
كُلَّ يَوۡمٍ هُوَ فِي شَأۡنٖ ٢٩ [الرحمن: 29]
ولقد عاب الله تعالى على صنف من النّاس إذا فازوا بمقصدهم ووصلوا إلى مبتغاهم اغترّوا وصاروا متمرِّدين على طاعة الله تعالى! وإذا نزلت بهم نازلة أو ألمّ بهم خَطب، استولى عليهم الأسف والحزن والياس وكأنّهم ما ذاقوا خيرًا قط! قال تعالى:
وَإِذَآ أَنۡعَمۡنَا عَلَى ٱلۡإِنسَٰنِ أَعۡرَضَ وَنَـَٔا بِجَانِبِهِۦ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ كَانَ يَـُٔوسٗا ٨٣ [الإسراء: 83]
فما هو حكم القنوط؟
أجمع العلماء على تحريم اليأس والقنوط، وأنّه من كبائر الذنوب.
* جعلهما الإمام القرطبي رحمه الله تعالى في الكبائر بعد الشرك بالله تعالى من حيث الترتيب (الجامع لأحكام القرآن١/١٦٠) (الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي: ١/١٤٩).
* وقال سيدنا ابن عباس رضي الله عنه: أكبر الكبائر الشرك بالله (والقنوط من رحمة الله) واليأس من روح الله والأمن من مكر الله (شعب الإيمان للبيهقي: 1/271، دار الكتب العلمية).
* وقال العدوي: [الإياس من الكبائر] (حاشية العدوي على شرح الكفاية: ٢/٤٤١).
قد يقول قائل: هل هناك فرق بين اليأس والقنوط؟
نعم! وهذا الفرق ثبت من القرآن الكريم "اليأس والقنوط": هما فقدان الأمل، ولكن في القنوط نجد أنّ الأمر يمكن أن يحصل بعد طول انتظار، مثل قوله تعالى:
قَالُواْ بَشَّرۡنَٰكَ بِٱلۡحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ ٱلۡقَٰنِطِينَ ٥٥ [الحجر: 55]
ففي البداية لم يكن لديه الولد، ولكن يمكن أن يحصل ذلك في المستقبل وفعلاً رُزق بالولد بعد الكِبر في السن (تفسير الوسيط للواحدي: 22/4).
أمّا في اليأس فالمرء يرى أنّ الأمر لن يتحقق فهو ميؤوس منه، مثل قوله تعالى:
لَا يَاْيۡـَٔسُ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨٧ [يوسف: 87]
وقد دلَّت هذه الآيةُ الكريمةُ على أنَّ اليأسَ والقنوطَ مِن رحمة الله تعالى مِن صفات القوم الكافرين، ولا يلزَم مِن هذا أنَّ مَن اتَّصفَ بصفةٍ مِن صفاتهم أن يكون كافرًا مثلهم.
واليأس والقنوط مِن رحمة الله تعالى قد يكون كفرًا يخرج مِن مِلَّة الإسلام، وقد يكون كبيرةً من الكبائر.
والضَّابِط في ذلك: أنَّ اليأس إذا انعدمَ معه الرَّجاء من رحمة الله تعالى وفرجه وعفوه -له أو لغيره- كان إنكارًا واستبعادًا لسَعَة رحمته سبحانه ومغفرته وعفوه فهو كفرٌ؛ لأنَّه يتضمَّن تكذيبَ القرآن والنُّصوص القطعيَّة، وإساءة الظَّنِّ بالله تعالى؛ "إذ يقول:
وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ [الأعراف: 156]
وفي المقابل العبدُ يقول: لا يغفِر له! فقد حجَّر واسعًا، هذا إذا كان معتقدًا لذلك )كما قال الإمامُ القرطبيُّ -رحمه الله- في تفسيره 5/ 160).
أمّا إن كان لاستعظام الذَّنوب، واستبعاد مغفرتها والعفو عنها، أو بالنَّظَر إلى قضاء الله وأموره في الكون -كاليأس في الرِّزق والولد ونحوه-، مع عدم انعدام الرجاء؛ فهذا كبيرةٌ مِن الكبائر ولا يكون كفرًا. وقد عُدَّ من الكبائر بالإجماع لما وردَ فيه مِن الوعيد الشديد؛ كقوله تعالى:
لَا يَاْيۡـَٔسُ مِن رَّوۡحِ ٱللَّهِ إِلَّا ٱلۡقَوۡمُ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨٧ [يوسف: 87]
وقوله سبحانه:
وَمَن يَقۡنَطُ مِن رَّحۡمَةِ رَبِّهِۦٓ إِلَّا ٱلضَّآلُّونَ ٥٦ (الحِجر: 56)
والله أعلم (تفسير القرطبي: 5/ 160).
ما هي نتائج اليأس والقنوط على الفرد والمجتمع؟
1. سبب لفساد القلب وذهاب السكينة منه: الشعور الدائم بالحزن والحرمان والوهم، نسأل الله العافية.
2. الفتور والكسل: عن فعل الطاعات والغفلة عن ذكر الله تعالى: قال ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى: [القانط آيس من نفع الأعمال ومن لازم ذلك تركها] (الزواجر: 1/122).
3. الاستمرار في الذنوب والمعاصي: قال أبو قِلابة رحمه الله تعالى: الرجل يصيب الذنب فيقول قد هلكت ليس لي توبة فييأس من رحمة الله تعالى وينهمك في المعاصي (المعجم الأوسط: 123/5).
4. اليأس سبب للوقوع في الهلاك والضلال: ربّما الإقدام على الانتحار، عندما ييأس الإنسان من رحمة الله تعالى، نتيجة لوقوعه الكثير في الذنوب والمعاصي، فييأس من التوبة أو عدم حصوله على ما يناله، فينتابه الإحباط، وذلك لإهمال الوازع الديني الذي كان يوقظه حتى مات بداخله، فلم يجد له حلّا ًولا سبيلاً إلّا التخلص من حياته. نسأل الله العفو والعافية، قال محمد بن سيرين وعبيدة السلماني رحمهما الله تعالى في تفسير قوله تعالى:
وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ [البقرة: 195]،
الإلقاء إلى التهلكة هو القنوط من رحمة الله تعالى.
فما هو علاج القنوط من رحمة الله عزّ وجل؟
1. الإقلاع عن المعاصي: المبادرة إلى التوبة، والإسراع إليها وعدم التسويف:
قُلۡ يَٰعِبَادِيَ ٱلَّذِينَ أَسۡرَفُواْ عَلَىٰٓ أَنفُسِهِمۡ لَا تَقۡنَطُواْ مِن رَّحۡمَةِ ٱللَّهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَغۡفِرُ ٱلذُّنُوبَ جَمِيعًاۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلۡغَفُورُ ٱلرَّحِيمُ ٥٣ [الزمر: 53].
2. حسن الظن بالله تعالى: قد حثّنا حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم على حسن الظن بالله تعالى فقال:
(لا يموتنّ أحدكم إلّا وهو يحسن الظن بالله) (صحيح مسلم: 2877).
2. النظر إلى سعة رحمة الله تعالى ومغفرته:
وَرَحۡمَتِي وَسِعَتۡ كُلَّ شَيۡءٖۚ [الأعراف: 156].
4. تعلّق القلب بالله والثقة به: فلا يليق بالمسلم أن ييأس من روح الله ولا يقنط من رحمته.
5. الإيمان بالقضاء والقدر:
مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٖ فِي ٱلۡأَرۡضِ وَلَا فِيٓ أَنفُسِكُمۡ إِلَّا فِي كِتَٰبٖ مِّن قَبۡلِ أَن نَّبۡرَأَهَآۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٞ ٢٢ [الحديد: 22].
6. الصبر عند الابتلاء والدعاء مع الإيقان بالإجابة.
في نهاية المطاف لنعلم:
أنّ من أكثر أسباب اليأس والقنوط تعلق القلب بالدنيا والحزن والتأسف على فواتها، وفي الحديث الشريف:
إِنَّ اللهَ يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لَا يُحِبُّ، وَلَا يُعْطِي الدِّينَ إِلَّا لِمَنْ أَحَبَّ (مسند أحمد)؛
لذلك لا تقنطوا من رحمة الله تعالى: [هي أملٌ نحيا به حتى نموت، خيرٌ من يأس وقنوط يقتلنا قبل أوان الرحيل، إنّ الأمل الذي لا يخبو هو ذاك النور المقتبس من جذوة الإيمان وهو الذي يضيء دروب الحياة حتى في الليالي الحالكات].
اليأس والقنوط يعكّران صفو الحياة، فالعجب من هؤلاء القانطون من رحمة ربهم:
أليس: لِلَّهِ ٱلۡأَمۡرُ مِن قَبۡلُ وَمِنۢ بَعۡدُۚ [الروم: 4]
أليس حَسۡبُنَا ٱللَّهُ وَنِعۡمَ ٱلۡوَكِيلُ ١٧٣ [آل عمران: 173]
أَلَيۡسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبۡدَهُۥۖ وَيُخَوِّفُونَكَ بِٱلَّذِينَ مِن دُونِهِۦۚ [الزمر: 36]
تأمّل حياة حبينا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:
تأمّل حياة حبينا المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، الأعداء أمام الغار فيُظهر في ذلك الحين ثقته الشديدة برحمة ربّه:
إِذۡ يَقُولُ لِصَٰحِبِهِۦ لَا تَحۡزَنۡ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَاۖ [التوبة: 40]
والأعجب من ذلك وهو مطارد يبشِّر {سُراقة} بأنّه سيرتدي سواري كسرى! ليس هذا فحسب، يضع على بطنه الحجر من شدّة الجوع، وقد قيل عنه: كذّاب وساحر ومجنون وشاعر[حاشاه] تشجّ رأسه، فماذا فعل بأبي هو وأمي صلوات ربي وسلامه عليه؟ لجأ إلى ذي الجبروت والملكوت، ولم يقنط من رحمة ربّه.
ومهما أسرفت على نفسك إيّاك والقنوط، أقبل على الله تعالى، سيقبلك سيرحمك.
اللهم اغفر لنا وارحمنا واعفو عنّا وتب علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.